على هامش مؤتمر خُصّص لدراسة أبعاد التفاعل المختلفة بين العلوم الإنسانية والتكنولوجيا، عُقدت جلسة تخصصية بعنوان «العلوم الإنسانية والذكاء الاصطناعي: تفاعل أم تقابل؟» بمشاركة أربعة من المفكرين البارزين في هذا المجال. كان الهدف الرئيسي من هذه المائدة المستديرة هو تحليل الجوانب المختلفة لتأثير الذكاء الاصطناعي على البنى الفكرية والاجتماعية والعلمية لدى الإنسان.

مسار التفاعل
في جزء من هذه الجلسة، أشار الدكتور حسين أكبري، أستاذ مشارك في قسم العلوم الاجتماعية بجامعة فردوسي مشهد، إلى التأثيرات الجذرية للذكاء الاصطناعي على هياكل التوظيف في العالم. وأوضح أننا نواجه نموذجاً جديداً من التوظيف، حيث لم يعد الإنسان يؤدي دوراً مباشراً، بل يعمل بشكل متزايد إلى جانب الآلات والتقنيات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي. ووصف هذا التحول بأنه شكل جديد من تنظيم سوق العمل.
أيضًا، شبّه الدكتور سيد هادي زرقاني، أستاذ مشارك في قسم الجغرافيا بنفس الجامعة، علم الذكاء الاصطناعي بكعكةٍ موادها الخام هي الكم الهائل من البيانات التي تراكمت على مدى سنوات طويلة. وأشار إلى أنه قبل تطوير أدوات تحليل الذكاء الاصطناعي، لم يكن البشر قادرين على الاستفادة من هذه الموارد المعلوماتية. ولكن مع ظهور هذه التكنولوجيا، أصبحت البيانات متاحة وقابلة للتحليل، مما مكّن الإنسان من الاستعداد بشكل أفضل للتحديات القادمة.
بُعد المواجهة
في الجانب الآخر من النقاش، حذّر الدكتور نعمة الله فيروزي، أستاذ مساعد في اللاهوت وعضو هيئة التدريس بقسم علوم القرآن والحديث في الجامعة الدولية للإمام الرضا (عليه السلام)، من عواقب الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي. وأكد أن اعتماد العقل البشري على أدوات الذكاء الاصطناعي يؤدي تدريجياً إلى تراجع القدرة على الإبداع والتفكير المستقل، وهو أمر يشكل تهديداً جدياً للعقل البشري واستقلاليته الفكرية.
كما أشار فيروزي إلى الأضرار العلمية لهذه التكنولوجيا، قائلاً إنّ في بعض الحالات يتم كتابة المقالات والأطروحات بطريقة ميكانيكية بحتة دون أي ابتكار فكري. وأوضح أن هذا الاتجاه قد يكون ضاراً بشكل خاص في العلوم الإنسانية التي تتطلب التفكير النقدي والاستدلال. واعتبر أن الالتزام بالمبادئ الأخلاقية وتعزيز ثقافة الاستخدام المسؤول للتكنولوجيا يمثلان حلاً أساسياً لمواجهة هذه التهديدات.
التكنولوجيا: خادمة أم متسلطة؟
في مواصلة للندوة الحوارية، قدّم مهدي أنجيدني، مؤسس "ویراستی" وتطبيق المراسلة "گپ"، رؤية نقدية حول كيفية تطوير وتوزيع التكنولوجيا الحديثة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي. واعتبر أن التقنيات التقليدية والعامة مثل المثقاب أو آلة الغسيل تُعد أمثلة على تقنيات أساسية تخدم المستخدم وتتوفر بشكل موحد وعادل للجميع.
في المقابل، فإنّ التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي تعتمد على بنية منصّات مركزية تُفوّض السيطرة الكاملة على وصول المستخدمين إلى مالكي هذه التقنيات. وبحسب أنجيدني، فإنّ هذا الهيكل يؤدي إلى اختلاف الإجابات والخدمات التي يحصل عليها المستخدمون من هذه المنصات بناءً على الموقع الجغرافي أو متغيرات اجتماعية أخرى. فعلى سبيل المثال، قد تختلف إجابة نموذج ذكاء اصطناعي مثل ChatGPT على نفس السؤال من بلد إلى آخر بشكل كبير.
وحذّر من أنّ هذا النمط في تطوير التكنولوجيا لا يجعل المستخدمين مجرد مستهلكين فقط، بل يُسهم أيضاً في تعميق الفجوة التكنولوجية على المستوى العالمي. وأشار إلى أن هذه الفجوة قد تُفضي إلى نوع من السيطرة الاجتماعية من قِبل أقلية من مالكي التكنولوجيا، الذين يوجهون مستقبل البشرية استناداً إلى بيانات مشبعة بالتحيّزات الاجتماعية.
الدور الاستراتيجي للعلوم الإنسانية
في ختام الجلسة، شدد المتحدثون على أهمية العلوم الإنسانية في التعامل مع ظاهرة الذكاء الاصطناعي. واعتبروا أن مجالات مثل علم الاجتماع، الفلسفة، علم النفس، واللاهوت تُعد أدوات فعالة في بناء الثقافة، التوجيه المجتمعي، وتعزيز الوعي العام بهذه التكنولوجيا الناشئة؛ وهي مجالات يمكن أن تؤدي دوراً محورياً في توجيه هذا التفاعل بشكل سليم.